كيف كسر الجيش المصري خط بارليف المنيع في 6 أكتوبر 1973: من لحظة الإعلان إلى عبور الأسطورة

في الساعة الثانية ظهر السادس من أكتوبر عام 1973، دوّى صوت مذيع الإذاعة المصرية ليعلن الخبر الذي انتظره العرب والمصريون طويلاً: «القوات المسلحة المصرية تعبر قناة السويس، وتحطم خط بارليف المنيع».
كانت تلك اللحظة بمثابة الشرارة التي بدّلت موازين القوى في الشرق الأوسط، وأعادت لمصر والأمة العربية كرامتها بعد ست سنوات من الانكسار في نكسة 1967.
لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت ملحمة إرادة، وإبداع هندسي، ودهاء استراتيجي، وروح وطنية لا مثيل لها.
القصة من البداية: من الانكسار إلى التخطيط للعبور
بعد هزيمة يونيو 1967، وجد الجيش المصري نفسه أمام معضلة عسكرية قاسية. خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس، كان يُوصف بأنه “الخط الدفاعي الأقوى في العالم”.
امتد هذا الخط على مسافة تزيد عن 160 كيلومترًا، وتكوّن من تحصينات خرسانية، وسواتر رملية، وخنادق مضادة للدبابات، وأنفاق وملاجئ محصنة.
كانت الرسالة الإسرائيلية واضحة: “من المستحيل عبور هذا الخط”.
لكن داخل أروقة القيادة العامة المصرية، بدأت تتكوّن فكرة التحدي منذ عام 1968، بدأ المهندسون العسكريون المصريون في دراسة تفاصيل الخط، وتحليل تركيبته، ورسم خطط لعبوره.
كانت تلك المرحلة بمثابة بداية «حرب الاستنزاف»، التي مكّنت مصر من جمع المعلومات الميدانية، وتدريب الجنود على العمل تحت نيران العدو.
عبقرية الفكرة: الماء سلاح الانتصار
من بين الأفكار التي تم طرحها لتدمير الساتر الترابي الضخم لخط بارليف، ظهرت فكرة غير تقليدية على الإطلاق.
المهندس باقي زكي يوسف، الضابط بسلاح المهندسين، اقترح استخدام مضخات مياه عالية الضغط لفتح ثغرات في الساتر الرملي بدلاً من استخدام المتفجرات التقليدية.
كانت الفكرة مستوحاة من خبرته السابقة في مشاريع السد العالي، حيث استخدم الماء لإزالة الأتربة بكفاءة وسرعة.
رُفعت الفكرة إلى القيادة العليا، وبعد اختبارات عملية، تم اعتمادها رسميًا وفي السادس من أكتوبر 1973، تحوّل الماء إلى سلاح نصر.
تمكن المهندسون المصريون من فتح أكثر من 80 ثغرة في خط بارليف خلال ساعات معدودة، مستخدمين أكثر من 300 مضخة مياه.
كانت المفاجأة أن الساتر الترابي الذي قيل إن تدميره يحتاج إلى أيام من القصف، انهار أمام تدفق المياه في خمس ساعات فقط.
التوقيت الذهبي: 6 أكتوبر الساعة الثانية ظهرًا
اختيار التوقيت لم يكن صدفةاختار القادة المصريون يوم الغفران (يوم كيبور)، وهو يوم عطلة دينية في إسرائيل، ما جعل الجيش الإسرائيلي في حالة استرخاء كامل.
كما اختيرت الساعة الثانية ظهرًا بدقة، لتزامنها مع تغيّر اتجاه الشمس والرياح بما يخدم الجنود المصريين في الهجوم شرقًا.
وفي هذه اللحظة، انطلقت المدفعية المصرية بأكبر تمهيد نيراني في تاريخ الحروب العربية — أكثر من 2000 مدفع أطلقت قذائفها في وقت واحد على طول الجبهة.
اهتزّت التحصينات الإسرائيلية، وبدأت موجات العبور الأولى من قوات المشاة المصرية، في واحدة من أكثر العمليات العسكرية تنسيقًا ونجاحًا في التاريخ الحديث.
مشهد العبور: الرجال الذين صنعوا المعجزة
في غضون دقائق، امتلأت مياه القناة بالقوارب المطاطية الصغيرة، التي حملت الجنود المصريين تحت وابل من النيران.
كان المشهد مهيبًا: آلاف الجنود يعبرون في صمت وانضباط مذهل، يرفعون علم مصر على الضفة الشرقية.
في غضون ست ساعات فقط، تمكنت القوات المصرية من عبور القناة بالكامل، وتحطيم خط بارليف في عدة نقاط رئيسية.
دخلت الدبابات والعربات المدرعة عبر الجسور العائمة التي نصبتها وحدات المهندسين العسكريين بكفاءة غير مسبوقة.
أول دبابة مصرية عبرت القناة كانت في الساعة 8:30 مساءً من نفس اليوم، لتعلن رسميًا أن “الجيش المصري عبر القناة وأقام أول رأس جسر على الأراضي المحتلة”.
اللحظة التاريخية: إعلان النصر عبر الأثير
بينما كانت النيران مشتعلة على الجبهة، كانت القاهرة تستعد للحظة الإعلان في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرًا، أذاعت الإذاعة المصرية البيان العسكري رقم (7)، الذي قال فيه المتحدث العسكري:
“نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس على طول الجبهة، وتم الاستيلاء على عدد من النقط القوية لخط بارليف، وما زال القتال مستمرًا بنجاح.”
لم يكن مجرد بيان، بل صرخة انتصار دوّت في كل بيت مصري وعربي خرج الناس إلى الشوارع يهتفون “الله أكبر”، وتحوّلت لحظة الإعلان إلى أيقونة خالدة في الذاكرة الوطنية.
خط بارليف يسقط: الحقيقة وراء الأسطورة
لطالما رُوّج أن خط بارليف لا يمكن اختراقه إلا باستخدام قنبلة نووية صغيرة لكن الواقع أثبت أن الإبداع والتخطيط البشري أقوى من أي جدار.
التحصينات الإسرائيلية التي كانت تضم 22 نقطة حصينة، سقطت واحدة تلو الأخرى تحت زحف المقاتلين المصريين.
القوات الإسرائيلية حاولت تنظيم هجمات مضادة، لكنها فشلت في وقف الزحف المصري الذي امتد لأكثر من 15 كيلومترًا شرق القناة خلال الأيام الأولى.
أدرك العالم أن أسطورة بارليف سقطت، وأن الجيش المصري أصبح أول جيش في التاريخ الحديث ينجح في عبور مانع مائي محصّن تحت النار.
الإبداع العسكري المصري: خطة بدر
أُطلق على خطة العبور اسم «خطة بدر»، وهي خطة محكمة بدأت بإخفاء كامل للتحضيرات العسكرية.
تم نقل الآلاف من الجنود والمعدات تحت ستار المناورات التدريبية، ما خدع الاستخبارات الإسرائيلية التي لم تتوقع هجومًا شاملًا.
خطة بدر كانت تعتمد على خمس مراحل دقيقة:
- التمهيد المدفعي والهجومي المفاجئ.
- عبور وحدات المشاة في الموجة الأولى.
- فتح الثغرات في الساتر الرملي بمضخات المياه.
- تركيب الجسور العائمة وعبور الدبابات.
- تأمين رؤوس الجسور والاستعداد للهجمات المضادة.
هذه الخطة أصبحت نموذجًا يُدرّس في الأكاديميات العسكرية حول العالم كأحد أنجح عمليات العبور في التاريخ.
الجانب الإنساني: الجنود والأبطال الحقيقيون
وراء كل ثغرة فُتحت، وكل جسر عائم، كان هناك جندي مصري يقاتل بشجاعة وإيمان.
قصص الأبطال الذين شاركوا في العبور تملأ صفحات التاريخ:
- الجندي الذي حمل زميله المصاب عبر المياه تحت القصف.
- القائد الذي أصر على رفع العلم بيديه رغم إصابته.
- المهندس الذي أدار مضخة المياه حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
كانت روح التضحية واليقين بالنصر هي السلاح الأقوى الذي امتلكه الجيش المصري.
رد الفعل الإسرائيلي والدولي
شكّل عبور الجيش المصري صدمة هائلة لإسرائيل والعالم رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وصفت الساعات الأولى للحرب بأنها “أسوأ كابوس في حياتها”.
أما وزير الدفاع الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر فقال:
“لقد أعاد المصريون تعريف معنى الجسارة العسكرية.”
في العالم العربي، تحوّلت مصر إلى رمز للفخر والانتصار، وتوحدت الشعوب العربية في دعم الجيش المصري.
بينما في الغرب، بدأت مراكز الدراسات العسكرية في تحليل العملية باعتبارها “نقطة تحول في فنون الحرب الحديثة”.
من الحرب إلى السلام: نتائج العبور الكبرى
لم يكن عبور خط بارليف مجرد نصر عسكري، بل كان بداية مرحلة سياسية جديدة.
فقد مهد هذا الانتصار الطريق إلى اتفاقية فك الاشتباك، ثم لاحقًا اتفاقية كامب ديفيد، التي أعادت لمصر سيادتها الكاملة على سيناء.
استعاد الجيش المصري ثقته بنفسه، وأثبت للعالم أن التخطيط والإرادة يمكن أن يهزما التفوق التقني.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على العبور، ما زال السادس من أكتوبر رمزًا للنصر والإبداع المصري.
التقنيات التي سبقت عصرها
يُعتبر استخدام المياه في هدم التحصينات الرملية إنجازًا هندسيًا فريدًا كل مضخة كانت تضخ أكثر من 1000 لتر في الثانية، بقوة ضغط هائلة، تكفي لإزاحة عشرات الأطنان من الرمل خلال دقائق.
كما استخدم الجيش المصري معدات جسور عائمة سريعة التركيب من تصميم مصري خالص في المقابل، فوجئ الجيش الإسرائيلي بأن أنظمته الإلكترونية وأجهزة الإنذار كانت غير فعالة أمام السرعة المصرية الخاطفة.
البعد النفسي والمعنوي للانتصار
من أبرز ما ميّز حرب أكتوبر أن الروح المعنوية للجنود المصريين كانت في ذروتها كان شعارهم “الله أكبر”، الذي هزّ قلوب العدو قبل أن تهز المدافع الأرض.
في المقابل، تراجعت معنويات القوات الإسرائيلية، وبدأت موجة من الذعر والارتباك تعمّ صفوفهم هذه الحرب أثبتت أن العامل النفسي يمكن أن يكون حاسمًا بقدر السلاح نفسه.
العبور في الإعلام والفن
تناولت الأفلام والوثائقيات المصرية والعالمية لحظة العبور باعتبارها مشهدًا سينمائيًا بطوليًا.
من فيلم “الطريق إلى إيلات” إلى مسلسل “رأفت الهجان”، ظلت روح أكتوبر مصدر إلهام للأجيال الجديدة كما أنتجت وزارة الدفاع المصرية عدة أفلام توثيقية حديثة، يمكن مشاهدتها عبر
التي تضم أرشيفًا بصريًا نادرًا للحرب وتفاصيل لحظة العبور الأولى.
خرافات وأساطير حول خط بارليف
هناك العديد من المفاهيم الخاطئة التي ارتبطت بخط بارليف، منها:
- أنه كان خطًا منيعًا لا يمكن اختراقه. (تم اختراقه في ساعات قليلة).
- أن إسرائيل كانت مستعدة تمامًا. (الحقيقة أن عنصر المفاجأة أربكها).
- أن المضخات فكرة سوفيتية. (هي فكرة مصرية خالصة ابتكرها المهندس باقي زكي يوسف).
تصحيح هذه الأساطير ضروري لتوضيح الصورة الحقيقية لعبقرية التخطيط المصري.
دروس مستفادة من العبور
- التخطيط والإعداد أساس النجاح – لا مكان للصدفة في النصر.
- الذكاء الهندسي – استخدام أدوات بسيطة بطرق غير تقليدية يمكن أن يصنع المستحيل.
- الوحدة والروح الوطنية – كانت مصر كلها جيشًا وشعبًا على قلب رجل واحد.
- القيادة الواعية – قرارات القيادة العامة أثبتت أنها قائمة على العلم والخبرة.
- الانتصار الحقيقي هو استعادة الثقة – فعبور القناة كان عبورًا نفسيًا قبل أن يكون ماديًا.
حين غيّر المصريون معادلة التاريخ
إن لحظة إعلان عبور الجيش المصري خط بارليف المنيع لم تكن مجرد خبر في الإذاعة، بل كانت ولادة جديدة للأمة لقد أثبت المصريون في السادس من أكتوبر 1973 أن الإيمان بالحق والعلم والإبداع يمكن أن يهزم أسطورة القوة.
اليوم، ونحن نستعيد تلك اللحظة التاريخية، ندرك أن روح أكتوبر ليست ذكرى، بل منهج حياة يُلهم الأجيال القادمة لصنع مستقبل يليق بعظمة الماضي.